فصل: تفسير الآيات (59- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند، عن بعض أصحابه قال: كان ملك الموت صديقًا لإدريس عليه السلام، فقال له إدريس يومًا: يا ملك الموت، قال: لبيك. قال: أمتني، فأرني كيف الموت؟ قال له ملك الموت: سبحان الله يا إدريس!، إنما يفر أهل السموات والأرض من الموت، وتسألني أن أريك كيف الموت؟ قال: إني أحب أن أراه، فلما ألح عليه قال له: يا إدريس، أنا عبد مملوك مثلك، وليس إليّ من الأمر شيء. قال: فصعد ملك الموت فقال: رب إن عبدك سألني أن أريه الموت كيف هو؟ قال الله له: فأمته. فقال له ملك الموت: يا إدريس، إنما يفر الخلق من الموت، قال: فأرني. فلما مات بقي ملك الموت لا يستطيع أن يرد نفسه إليه، فقال: يا رب، قد ترى ما إدريس فيه؟ فرد الله إليه روحه، فمكث ما شاء حيًا، ثم قال يا ملك الموت: أدخلني الجنة فأنظر إليها؟ قال له: يا إدريس، إنما أنا عبد مملوك مثلك ليس إليّ من الأمر شيء، فألح عليه فقال ملك الموت: يا رب، إن عبدك إدريس قد ألح عليّ فسألني أن أدخله الجنة فيراها؟ وقد قلت له: إنما أنا عبد مثلك، وليس إليّ من الأمر شيء. قال الله: فأدخله الجنة قال: إن الله علم من إدريس ما لا أعلم أنا، فاحتمله ملك الموت فأدخله الجنة، فكان فيها ما شاء الله، فقال له ملك الموت: اخرج بنا. قال: لا. قال الله: {أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى} [الصافات: 58] وقال الله: {وما هم منها بمخرجين} [الحجرات: 48] وما أنا بخارج منها. قال ملك الموت: يا رب، قد تسمع ما يقول عبدك إدريس. قال الله له: صدق عبدي هو أعلم منك، فاخرج منها ودعه فيها. فقال الله: {ورفعناه مكانًا عليًا}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقًا نبيًا ورفعناه مكانًا عليًا} [مريم: 57- 58] قال: كان إدريس أول نبي بعثه الله في الأرض. وإنه كان يعمل فيرفع عمله مثل نصف أعمال الناس، ثم إن ملكًا من الملائكة أحبه فسأل الله أن يأذن له فيأتيه، فأذن له فأتاه فحدثه بكرامته على الله فقال: يا أيها الملك، أخبرني كم بقي من أجلي لعلي أجتهد لله في العمل. قال: يا إدريس، لا يعلم هذا إلا الله. قال: فهل تستطيع أن تصعد بي إلى السماء؟؛ فأنظر في ملك الله؛ فأجتهد لله في العمل. قال: لا. إلا أن تشفع، فتشفع فأمر به، فحمله تحت جناحيه فصعد به حتى إذا بلغ السماء السادسة، استقبل ملك الموت نازلًا من عند الله فقال: يا ملك الموت، أين تريد؟ قال: أقبض نفس إدريس. قال: وأين أمرت أن تقبض نفسه؟ قال: في السماء السادسة. فذهب الملك ينظر إلى إدريس، فإذا هو برجليه يخفقان قد مات، فوضعه في السماء السادسة.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ}.
أخرج ابن أبي حاتم، عن السدي في قوله: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين} قال: هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم. أما من ذرية آدم: فإدريس ونوح، وأما من حمل مع نوح: فإبراهيم- وأما ذرية إبراهيم: فإسماعيل، وإسحق، ويعقوب. وأما بني اسرئيل: فموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {واجتبينا} قال خلصنا.
وأخرج عبد بن حميد، عن قيس بن سعد قال: جاء ابن عباس حتى قام على عبيد بن عمير وهو يقص فقال: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقًا نبيًا} [مريم: 42] {واذكر في الكتاب إسماعيل} [مريم: 54] الآية {واذكر في الكتاب إدريس} الآية. حتى بلغ {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين} قال ابن عباس: {ذكرهم بأيام الله} [إبراهيم: 6] وأثن على من أثنى الله عليه.
وأخرج ابن أبي الدنيا في البكاء، وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب: أنه قرأ سورة مريم فسجد، ثم قال: هذا السجود فأين البكاء؟. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ}.
قوله: {مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ}: {مِن} الأولى للبيان؛ لأنَّ كلَّ الأنبياء مُنَعَّمٌ عليهم، فالتبعيضُ مُحالٌ، والثانيةُ للتبعيض، فمجرورُها بدلٌ مما قبلَه بإعادة العاملِ، بدلُ بعضٍ من كل.
قوله: {وإسرائيلَ} عطفٌ على {إبراهيمَ}.
قوله: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} يحتمل أَنْ يكونَ عطفًا على {مِّنَ النبيين}، وأن يكونَ عطفًا على {مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ}.
قوله: {إِذَا تتلى} جملةٌ شرطيةٌ فيها قولان، أظهرهما: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها. والثاني: أنها خبرُ {أولئك}، والموصولُ قبلها صفةٌ لاسم الإِشارة، وعلى الأول يكون الموصولُ نفسَ الخبر. وقرأ العامَّةُ {تُتلى} بتاءين مِنْ فوقُ. وقرأ عبد الله وشيبةُ وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر وورشٌ عن نافع في رواياتٍ شاذة بالياء أولًا مِنْ تحتُ، والتأنيثُ مجازيٌّ فلذلك جاء في الفعلِ الوجهان.
قوله: {سُجَّدا} حالٌ مقدرة. قال الزجاج: لأنهم وقتَ الخُرورِ ليسوا سُجَّدًا.
و{بُكِيَّا} فيه وجهان، أظهرهما: أنه جمع باكٍ، وليس بقياسِه، بل قياسُ جَمْعِه على فُعَلة، كقاضٍ وقُضاة، ولم يُسمع فيه هذا الأصلُ. وقد تقدَّم أنَّ الأخوين يكسِران فاءَه على الإِتباع. والثاني: أنه مصدرٌ على فُعُوْل نحو: جَلَسَ جُلُوْسًا، وقَعَدَ قُعودًا. والأصلُ فيه على كِلا القولين بُكُوْي بواوٍ وياء، فأُعِلَّ الإِعلالَ المشهور في مثله. وقال ابن عطية: {وبكيَّا} بكسر الباء وهو مصدرٌ لا يحتمل غيرَ ذلك. قال الشيخ: وليس بسديدٍ بل الإِتباعُ جائزٌ فيه. وهو جمعٌ كقولِهم عُصِيّ ودُليّ، جمع عَصا ودَلْو، وعلى هذا فيكون {بكيًَّا}: إمَّا مصدرًا مؤكدًا لفعلٍ محذوف، أي: وبَكَوْا بُكِيًَّا، أي: بكاءً، وإمَّا مصدرًا واقعًا موقع الحال، أي: باكين أو ذوي بكاءً، أو جعلوا نفس البكاءِ مبالغةً. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ}.
الصِّدِّيق كثير الصدق، لا يشوب صدقه مَذْقٌ، ويكون قائمًا بالحقِّ للحق، ولا يكون فيه نَفَسٌ لغيرالله.
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}: درجة عظيمة في التربية لم يُسَاوِه فيها أَحَدٌ.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ}.
أقامهم بشواهد الجمع، وأخبر أن مِنَّتَه كامِنَةٌ في تخصيصِهم بأحوالهم، وتأهيلهم لِمَا رقَّاهم إليه من المآل، وأنه بفضله اختارهم واجتباهم. ومما أنعم به عليهم من الخصائص رِقَّةُ قلوبِهم؛ فهم إذ تُتْلَى عليهم الآياتُ سجدوا، وسجوُد ظواهرِهم يدل على سجدود سرائرهم بما حقَّقَ لهم من شواهد الجمع، وأمارة صحته ما وفقهم إليه من عين الفرق؛ فبوصف التفرقة قاموا بحق آداب العبودية، وبِنعَت الجمع تحققوا بحقائق الربوبية. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تعالى: {إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}.
فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ سَامِعَ السَّجْدَةِ وَتَالِيهَا سَوَاءٌ فِي حُكْمِهَا وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا يَسْجُدُونَ؛ لِأَنَّهُ مَدَحَ السَّامِعِينَ لَهَا إذَا سَجَدُوا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أَنَّهُ تَلَا سَجْدَةً يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَر فَنَزَلَ وَسَجَدَهَا وَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ».
وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالُوا: «السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا».
وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ حَنْظَلَةَ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ ابْنَ مَسْعُودٍ سَجْدَةً فَقال: «إنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا»، وروى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُثْمَانَ مِثْلَهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَوْجَبَا السَّجْدَةَ عَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ لِلسَّجْدَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهَا؛ إذْ كَانَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لَهَا هُوَ السَّمَاعُ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا فِي الْوُجُوبِ بِالنِّيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ لَا يُفْسِدُهَا. اهـ.

.تفسير الآيات (59- 62):

قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من المقاصد العظيمة تبكيت اليهود، لأنهم أهل الكتاب وعندهم من علوم الأنبياء ما ليس عند العرب وقد استرشدوهم واستنصحوهم، فقد كان أوجب الواجبات عليهم محض النصح لهم، فأبدى سبحانه من تبكيتهم ما تقدم إلى أن ختمه بأن جميع الأنبياء كانوا لله سجدًا ولأمره خضعًا، عقب ذلك بتوبيخ هو أعظم داخل فيه وهو أشد مما تقدم لمن خاف الله ورسله فقال: {فخلف من بعدهم} أي في بعض الزمان الذي بعد هؤلاء الأصفياء سريعًا {خلف} هم في غاية الرداءة {أضاعوا الصلاة} الناهية عن الفحشاء والمنكر التي هي طهرة الأبدان، وعصمة الأديان، وأعظم الأعمال، بتركها أو تأخيرها عن وقتها والإخلال بحدودها، فكانوا لما سواها أضيع، فأظلمت قلوبهم فأعرضوا عن داعي العقل {واتبعوا} أي بغاية جهدهم {الشهوات} التي توجب العار في الدنيا والنار في الآخرة، فلا يقربها من يستحق أن يعد بين الرجال، من تغيير أحكام الكتاب وتبديل ما فيه مما تخالف الأهواء كالرجم في الزنا، وتحريم الرشى والربا، ونحو ذلك، وأعظمه كتم البشارة بالنبي العربي الذي هو من ولد إسماعيل {فسوف يلقون} أي يلابسون- وعدا لا خلف فيه بعد طول المهلة- جزاء فعلهم هذا {غيًّا} أي شرًا يتعقب ضلالًا عظيمًا، فلا يزالون في عمى عن طريق الرشاد لا يستطيعون إليه سبيلًا، وهم على بصيرة من أنهم على خطأ وضلال، ولكنهم مقهورون على ذلك بما زين لهم منه حتى صارت لهم فيه أتم رغبة، وذلك أعظم الشر، ولم يزل سبحانه يستدرجهم بالنعم إلى أن قطعوا بالظفر والغلبة حتى أناخت بهم سطوات العزة، فأخذوا على غرة، ولا أنكأ من الأخذ على هذه الصفة بعد توطين النفس على الفوز، وهو من وادي قوله: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا} [الإسراء: 97] مع قوله: {أسمع بهم وأبصر} وجزاء من كان هذا ديدنه في الدنيا والآخرة معروف لكل من له أدنى بصيرة أنه العار ثم النار، وأيضًا فإن من ضل أخطأ طريق الفلاح من الجنة وغيرها فخاب، ومن خاب فقد هلك؛ قال أبو علي الجبائي: والغي هو الخيبة في اللغة- انتهى.
ويجوز أن يراد بالغي الهلاك، إما من قولهم- أغوية- وزن أثفية- أي مهلكة، وإما من تسمية الشيء باسم ما يلزمه.
ولما أخبر تعالى عنهم بالخيبة، فتح لهم باب التوبة، وحداهم إلى غسل هذه الحوبة، بقوله: {إلا من تاب} أي مما هو عليه من الضلال، بإيثار سفساف الأعمال، على أوصاف الكمال، فحافظ على الصلاة، وكف نفسه عن الشهوات {وءامن} بما أخذ عليه به العهد {وعمل} بعد إيمانه تصديقًا له {صالحًا} من الصلوات والزكاة وغيرها، ولم يؤكدهما لما أفهمته التوبة من إظهار عمل الصلاة التي هي أم العبادات {فأولئك} العالو الهمم، الطاهرو الشيم {يدخلون الجنة} التي وعد المتقون {ولا يظلمون} من ظالم ما {شيئًا} من أعمالهم؛ ثم بينها بقوله: {جنات عدن} أي إقامة لا ظعن عنها بوجه من الوجوه {التي وعد الرحمن} الشامل النعم {عباده} الذين هو أرحم بهم من الوالدة بولدها؛ وعبر عنهم بوصف العبودية للإشعار بالتحنن، وعدًا كائنًا {بالغيب} الذي لا اطلاع لهم عليه أصلًا إلا من قبلنا، فآمنوا به فاستحقوا ذلك بفضله سبحانه على إيمانهم بالغيب.
ولما كان من شأن الوعود الغائبة- على ما يتعارفه الناس بينهم- احتمال عدم الوقوع، بين أن وعده ليس كذلك بقوله: {إنه كان} أي كونًا هو سنة ماضية {وعده مأتيًّا} أي مقصودًا بالفعل، فلابد من وقوعه، فهو كقوله تعالى: {إن كان وعد ربنا لمفعولًا} [الإسراء: 108].
ولما كانت الجنة دار الحق، وكان أنكأ شيء لذوي الأقدار الباطل، وكان أقل ما ينكأ منه سماعه، نفى ذلك عنها أبلغ وجه فقال: {لا يسمعون فيها لغوًا} أي شيئًا ما من الباطل الذي لا ثمرة له.
ولما كانت السلامة ضد الباطل من كل وجه، قال: {إلا} أي لكن {سلامًا} لا عطب معه ولا عيب ولا نقص أصلًا فيه، وأورد على صورة الاستثناء من باب قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

ويحسن أن يراد باللغو مطلق الكلام؛ قال في القاموس: لغا لغوًا: تكلم. أي لا يسمعون فيها كلامًا إلا كلامًا يدل على السلامة، ولا يسمعون شيئًا يدل على عطب أحد منهم ولا عطب شيء فيها.
ولما كان الرزق من أسباب السلامة قال: {ولهم رزقهم} أي على قدر ما يتمنونه ويشتهونه على وجه لابد من إتيانه ولا كلفة عليهم فيه ولا يمن عليهم به {فيها بكرة وعشيًا} أي دوامًا، لا يحتاجون إلى طلبه في وقت من الأوقات، وفي تفسير عبد الرزاق عن مجاهد: وليس فيها بكرة ولا عشي، لكنهم يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا. أي أنهم خوطبوا بما يعرفون كما أشار إليه تأخير الظرف إذ لو قدم لأوهم بعدهم عن ذلك بالجنة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)}.
اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الأنبياء بصفات المدح ترغيبًا لنا في التأسي بطريقتهم ذكر بعدهم من هو بالضد منهم فقال: {فخلف من بعدهم خلف}، وظاهر الكلام أن المراد من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم يقال: خلفه إذا أعقبه ثم قيل في عقب الخبر خلف بفتح اللام وفي عقب الشر خلف بالسكون، كما قالوا: وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر وفي الحديث: «في الله خلف من كل هالك» وفي الشعر للبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

ثم وصفهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات فإضاعة الصلاة في مقابلة قوله: {خَرُّواْ سُجَّدًا} [السجدة: 15] واتباع الشهوات في مقابلة قوله: {وَبُكِيًّا} لأن بكاءهم يدل على خوفهم واتباع هؤلاء لشهواتهم يدل على عدم الخوف لهم وظاهر قوله: {أضاعوا الصلاة} تركوها لكن تركها قد يكون بأن لا تفعل أصلًا وقد يكون بأن لا تفعل في وقتها وإن كان الأظهر هو الأول وأما اتباع الشهوات فقال ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب واحتج بعضهم بقوله: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ} على أن تارك الصلاة كافر، واحتج أصحابنا بها في أن الإيمان غير العمل لأنه تعالى قال: {وآمَنَ وَعَمِلَ صالحا} فعطف العمل على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه، أجاب الكعبي عنه: بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما، وهذا الجواب ضعيف لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي وقوع المغايرة بينهما لأن التوبة عزم على الترك والإيمان إقرار بالله تعالى وهما متغايران، فكذا في هذه الصورة.
ثم بين تعالى أن من هذه صفته {يَلْقُونَ غَيًّا} وذكروا في الغي وجوهًا: أحدها: أن كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد، قال الشاعر:
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وثانيها: قال الزجاج: {يَلْقُونَ غَيًّا} أي يلقون جزاء الغي، كقوله تعالى: {يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] أي مجازاة الآثام.